هاجرت بيرونيا، وهي عراقية مسيحية في سبعينيات القرن الماضي، ثمّ التحق بها أفراد عائلتها في التسعينيات، وتركوا مستأجراً في منزلهم الواقع بمنطقة الأثوريين في مدينة الدورة بالعاصمة بغداد.
في العام 2019 عادت بيرونيا لزيارة قبر والديْها، لتكتشف أنّ منزلهم قد تمّ بيعه في عام 2012 بتزوير توقيعها وتواقيع إخوتها العشرة، علماً أنّ أحدهم توفي قبل بيع المنزل لكنّها وجدت اسمه ضمن أسماء الموقّعين.
لجأت بيرونيا لتوكيل محامٍ وقامت بمراجعات متكرّرة لدوائر العقار والمحاكم أملاً في استعادة منزل العائلة الذي يمثل آخر جذورهم المتبقية في العراق.
تقول بيرونيا
❝
إنّ العشرات من المسيحيين في منطقتهم خسروا منازلهم بطرق مشابهة.
❞
وتروي كيف أُجبِرَ عمّها على إخلاء منزله بعد مداهمته فجراً في أحد أيام عام 2007 من دون أن يُسمح له بأخذ أيّ غرض من البيت. آنذاك كانت السيطرة في هذا الجزء من بغداد لتنظيم “القاعدة”، فاقتحم المنزل مسلّحون من أبناء المنطقة نفسها وخيّروا العمّ بين الهجرة أو دفع الجزية أو إعلان إسلامه، وهو ما اضطرّه للهرب إلى شمال العراق حيث توفّي بحسرته.
وفي الوقت الذي كَثُرَ فيه الحديث عن استباحة تنظيم “داعش” لأراضي وعقارات الأقلّيات الدينية في الموصل وبعض المحافظات العراقية الأخرى، إلّا أنّ الانتهاكات التي بدأت منذ عام 2003 ما تزال مستمرة حتى اليوم ولا تقتصر على طرف دون الآخر كما سيكشف هذا التحقيق.
فالعراقيون لم ينسوا بعد وسم “حرف النون” الذي يُرسم على جدران منازل المسيحيين في مناطق كثيرة أخرى وأولها بغداد، في إشارة لوصفهم بالنصارى، ما يتيح قتلهم والاستحواذ على عقاراتهم سواء من ملكيات الأفراد أو الأوقاف الدينية.
في قلب بغداد وفي مدينة زيونة يقع منزل صلاح غزالة (59 عاماً) وزوجته ديانا توماس (60) عاماً، اللذيْن بذلا كلّ ما يملكان لشراء قطعة الأرض وبنائه عليها. وفي العام 2000 نتيجة الأوضاع المادية توقّف صلاح عن إكمال المنزل في مراحله الأخيرة، ووضعَ لحمايته حارساً مع عائلته مقابل راتب شهري.
هاجر صلاح وزوجته إلى سوريا ومنها إلى أميركا في عام 2007، واستمرّ بالتواصل مع الحارس للاطمئنان على المنزل حتى العام 2018 لكنّه فوجئ بعد أسبوع من آخر مكالمة بإبلاغ الحارس له أنّ البيت قد تمّ بيعه بمكاتبة عقارية عن طريق وكالة من ديانا زوجته في محافظة أربيل رغم أنّهما لم يزورا العراق منذ مغادرتهما.
استيلاء بسطوة المتنفّذين والميليشيات المسلّحة
تحرّك صلاح للاتصال بكلّ معارفه والوصول إلى دائرة العقار، وبعد البحث وجد أنّ أحد المتنفّذين الذي ينتمي لمليشيا مسلّحة استولى على الدار وراح يراجع دائرة العقار لتحويل ملكيتها. ولكنّ صلاح خشيَ ذكر جهة مسلّحة بعينها، إلّا أنّ المنطقة التي يقع فيها العقار تخضع لسلطة الميليشيات الشيعية المعروفة بـ “المقاومة”، وقد حصل مُعِدُّ التحقيق على الوثيقة التي تثبت التزوير بالإضافة إلى كتاب حكومي باسم الشخص.
وكانت الدائرة العقارية أوقفت المعاملة وحجزتها لشكها بالمرأة التي ادّعت أنّها ديانا وحضرت لتوقيع تحويل الملكية بنفسها حاملة جواز سفر بريطانياً.
أوكل صلاح محامياً لمتابعة القضية في العام 2018 بعدما بلَغَهُ أنّ المستولي باشر بهدم المنزل وتحويله لمحلات تجارية.
بعد شهر من توكيله، اتصل المحامي بصلاح وأبلغه أنّه تعرّض للضرب والتهديد وتمّت سرقة حقيبته، معتذراً عن إكمال القضية. لجأ الرجل بعدها إلى نوّاب مسيحيين ومتخصصين في دائرة الأوقاف المسيحية وتواصل كذلك مع الأمانة العامة لمجلس الوزراء لكن دون جدوى.
تملّك صلاح اليأس وتدهورت حالته الصحية، وفضّل عدم الاستمرار في محاولات استرداد عقاره الذي يبلغ ثمنه اليوم أكثر من 700 ألف دولار. وحتى إعداد التحقيق تحوّل منزل صلاح لمبنى تجاري يضم شققاً سكنية ومحلات في قلب “زيونة” أغلى مناطق العاصمة بغداد.
استيلاء حكومي
في كركوك شمالاً لا يختلف الحال كثيراً، وإن تبدّلت السلطات المسيطرة بين مجموعات سنّيّة مسلّحة حتى 2017، ثمّ ميليشيات شيعية بعد ذلك مع الإبقاء على شيءٍ من تقاسم النفوذ. فقد تواصل مُعِدُّ التحقيق مع أسعد عزريا داوود الذي تمّ الاستيلاء على منزله من قبل جماعات مسلحة باعته عبر التزوير.
لكنّ خوف عزريا المقيم في أميركا اليوم، منعه من الذهاب إلى كركوك التي تشهد وضعاً أمنياً غير مستقر حتى اليوم، دفعه لتوكيل محامٍ بهدف استعادة المنزل. بعد شهر واحد، أبلغ المحامي عزريا أنّه تعرّض للتهديد واعتذر له عن المضي في إكمال الدعوى المطالبة باستعادة المنزل خوفاً مما قد يلحق به من أذى.
تتنوع عمليات وطرق الاستيلاء على عقارات المسيحيين في العراق كما يبين بعضها النائب في البرلمان العراقي عن المكوّن المسيحي، يونادم كنا، بالقول إنّها “كثيرة ومتنوّعة، منها ما يتمّ عبر الاحتيال والتزوير والاستيلاء بالقوّة”، مشيراً إلى وجود حالة غريبة مرّت عليه مؤخراً عبر إقامة بائع حلويات متجوّل في إحدى المناطق، دعوى ضدّ مواطن مسيحي مهاجر يمتلك بيتاً في منطقته، ادّعى فيها مع الشهود أنّه أقرض صاحب الدار مبلغاً مالياً قدره 600 مليون دينار عراقي (نحو 500 ألف دولار) مطالباً بتحويل ملكية الدار له تعويضاً عن المبلغ، وكاد الأمر يتحقق لولا تحرّكه مع جهات مسيحية لإيقاف الموضوع.
ولفت إلى أنّ
❝
هناك عمليات احتيال رافقت عمليات التحويل عبر الاتصال فعلاً بصاحب الدار وإيهامه بنيّة شراء الدار والسفر له أو التواصل مع وكيله وتوقيع عقد مبدئي دون دفع الأموال ثمّ تزوير العقد وتحويل ملكية الدار
❞
عقوباتُ التزويرِ في القانونِ العراقي
يقول الخبير القانوني علي التميمي، إنّ القانون العراقي صريح في قضايا التزوير إذا ما ثبت وفق المستندات والشهود والوثائق، إذ تصل العقوبة بحسب المادة 289/ 298 من قانون العقوبات العراقي للسجن مدة 15 عاماً مع القبض على كلّ المتّهمين بالقضية، سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء ثمّ تُحال القضية إلى محكمة الجنايات، ويرفع المتضرّر دعوى مدنية أخرى لمحكمة البداءة للمطالبة بأصل العقار والحصول على التعويض من المدّعى عليهم.
مثّلت الحالات التي قدّمها مُعِدُّ التحقيق أمثلةً قليلةً وبسيطة على انتهاكات قامت بها جماعات مسلّحة عن طريق التزوير والجهات الحكومية التي أشعرت المسيحي بأنّه مواطن مغلوب على أمره وأنّ القانون لا يحميه. وحاولنا الحصول على إحصائية رسمية لعدد العقارات التي تمّ الاستيلاء عليها بعد عام 2003 لكنّنا لم نوفّق نتيجة الخوف والملاحقة. لكنّ النائب في البرلمان يونادم كنا أحالنا إلى إحصائية صادرة عن قيادة عمليات بغداد أشارت إلى وجود 36 ألفَ منزل مسلوب من المسيحيين والمسلمين (سنة وشيعة)، لافتاً إلى أنّ عدد منازل المسيحيين تحديداً، التي تمّ الاستيلاء عليها، لا يمكن إحصاؤه رغم استمرار الظاهرة حتى اليوم وعلى مرأى ومسمعٍ من الجميع.
وبحسب رئيس أساقفة أبرشية أربيل للكلدان المطران بشار وردة فإنّ العدد يزيد عن 25 ألفاً في عموم مناطق العراق، مع عدم القدرة على اعتماد إحصائية باعتبار أنّها مسؤولية الدولة، ولكنّها “تلجأ دائماً لتشكيل لجانٍ لتسويف الأمر”. ويلفت المطران إلى مغادرة نحو مليون مسيحي العراق، دون رجعة خلال السنوات الماضية، حيث لم يبقَ اليوم أكثرُ من 400 ألف مسيحي من أصل مليون ونصف كانوا يعيشون في العراق قبل عام 2003.
في المقابل، وبحسب أرقام غير رسمية يملكها النائب السابق جوزيف صليوا يرتفع العدد إلى أكثر من 60 ألف عقار تمّ الاستيلاء عليها في جميع المحافظات عدا إقليم كردستان، كثيرٌ منها في محافظات الوسط والجنوب التي لم يدخلها “داعش”.
استمرار الظاهرة واللّجان المؤقتة
رغم اعتراف الحكومة لسنوات سابقة بوجود ظاهرة التلاعب بأملاك المسيحيين، إلّا أنّ تحركاتها كانت محدودة جداً، كما تفاقمت الظاهرة مع دخول “داعش” وكَثُرَ بيع عقارات المسيحيين. تحرّك بعدها القضاء ووزارة العدل، وأصدروا قراراً يشترط وجود ممثل من ديوان الوقف أو النوّاب المسيحيين في البرلمان عند بيع هذه العقارات، لكنّ الظاهرة لم تتوقف.
النائب السابق صليوا، يشير إلى أنّ الحكومة وضعت محدّدات على بيع عقارات المسيحيين، واشترطت موافقة الجهات الدينية، للحدّ من محاولات الضغط على الأفراد وإكراههم على بيع ممتلكاتهم، لكنّ ما يحصل هو أنّ ذات الجهات الدينية، توافق على بيع العقارات وحتى الكنائس، ما يجعل الجهات الحكومية عاجزة عن فعل شيء.
ويؤكد النائب الحالي يونادم كنا أنّ الظاهرة مستمرة حتى اليوم، رغم كلّ محاولات الحدّ منها، إثر التحرّكات التي قادتها الجهات المسيحية وأدّت إلى إصدار القرارات وتشكيل اللجان الحكومية وحتى من قبل الجهات السياسية، مستشهداً باللجنة التي شكلها التيار الصدري العام الماضي، وهو تيار سياسي شيعي يقوده مقتدى الصدر، ويمتلك تمثيلاً نيابياً كبيراً، قال إنّ لجنته أعادت أكثر من 60 عقاراً إلى أصحابها.
كلام كنا توافق مع إعلان مجلس القضاء الأعلى على موقعه الرسمي في بداية عام 2021، أي قبل زيارة البابا بشهر واحد، إصدار أحكام بالسجن لسبع وست سنوات على اثنيْن من أفراد عصابة قامت بالاحتيال على عشرات المسيحيين من المهاجرين عبر السفر إليهم وادّعائهما نيّة شراء منازلهم، وتوقيع وكالات لهم.
ليست عقارات المسحيين هي ما تمّ الاستيلاء عليه فحسب، فحتى كنائسهم وأديرتهم ورهبانياتهم، بيع بعضها وعُرِضَ البعضُ الآخرُ للاستيلاء على مرأى المؤسسات الحكومية المسؤولة عن رعاية مصالحها.
ففي الوقت الذي كانت فيه أنظار العالم متّجهة صوب وصول بابا الفاتيكان للعراق بداية هذا العام في زيارة وُصِفَت بالتاريخية، لإحلال السلام واحترام الأديان ودعوة أبناء العراق من المسيحيين للعودة إلى أرض الوطن، كانت الآليات والجرّافات مستمرة بالعمل على تجريف أرض العقار المرقّم 35/22 راغبة خاتون والعائد لرهبانية بنات مريم الكلدانيات في منطقة الأعظمية وسط العاصمة بغداد بعد بيعها كقطع أراضٍ سكنية. وكان العقار يضمّ قبل تجريفه، داراً للأيتام وكنيسةً صغيرةً للقاطنين في الدار.
استيلاءٌ باسمِ القانون
الصراع على ملكيّة أرض عقار الرهبانية استمر نحو 5 سنوات. وفقاً للوثائق الرسمية والمخاطبات التي حصلنا عليها من العام 2016، إذ تعود ملكية أرض العقار لرهبانية بنات مريم الكلدانية التابعة للرهبنة اليسوعية من الطائفة اللاتينية.
تظهر وثيقة تحصّلنا عليها مطلع العام 2016 إرسال رئيس الطائفة اللاتينية في العراق المطران جان سليمان، كتاباً إلى ديوان الأوقاف المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية في العراق يطالب بالتحرّك السريع لإيقاف بيع عقار الأعظمية وعدم التصرّف به، مرفقاً بنسخة من سند الملكية، الذي يظهر ملكيته لجمعية الصداقة العراقية الأمريكية العلميّة في بغداد التابعة للطائفة.
وفي تموز (يوليو) من العام نفسه، أرسل ديوان الأوقاف كتاباً لدائرة التسجيل العقاري في مدينة الأعظمية التابعة لوزارة العدل مطالباً إيّاها بوقف كافة إجراءات التصرّف بأرض العقار العائدة للرهبانية، وكتاباً آخر لهيئة الضرائب يطالب بمنع ترويج معاملة بيع العقار، فضلاً عن كتاب لهيئة الضرائب يطالبها بمنع ترويج معاملة بيع العقار أو التصرّف به موقعة بإمضاء رئيس الديوان حينها.
بعد خمسة أشهر، عاد نفس الديوان ليرسل كتاباً إلى نفس الدائرة معلناً سماحه بإجراء عملية الترويج، لكنّ الدائرة القانونية في دائرة التسجيل العقاري وأمانة بغداد رفضت ترويج معاملة البيع نظراً لعائدية الرهبانية ومكانتها.